الدولار عند مفترق طرق
يشهد الدولار الأمريكي، الذي يُعد تاريخيًا محور أسواق العملات العالمية، واحدة من أكثر مراحله حساسية في الفترة الأخيرة. إذ يتنقل المتداولون في بيئة تعيد فيها بيانات سوق العمل، وتوقعات السياسة النقدية، وتدفقات رؤوس الأموال عبر الحدود تشكيل تقييمات الدولار أمام أزواج العملات الرئيسية. وقد أدّى مزيج من إحصاءات التوظيف الضعيفة نسبيًا وتغيّر آفاق أسعار الفائدة إلى معاناة العملة الخضراء أمام منافسين مثل اليورو والجنيه الإسترليني. مع تسجيل تحركات متباينة خلال التداولات اليومية في ظل تراجع السيولة مع اقتراب نهاية العام.
اليوم، تداول مؤشر الدولار الأمريكي (DXY)، الذي يقيس قيمة الدولار مقابل سلة من ست عملات رئيسية، على ارتفاع طفيف بعد موجة ضعف سابقة، لكنه ظل قريبًا من أدنى مستوياته منذ عدة أشهر. وخلال الجلسات الآسيوية والأوروبية، استقر المؤشر قرب مستوى 98.20. ما يعكس ضغوطًا هبوطية مستمرة أبقته قرب مستويات لم تُسجّل منذ أوائل أكتوبر. ويُعد الانخفاض السنوي للمؤشر بنحو 9.5% واحدًا من أشد التراجعات منذ عام 2017، في إشارة إلى ضعف واسع النطاق للدولار خلال عام 2025.
ويعود جانب كبير من هذا الضغط الهبوطي إلى بيانات سوق العمل الأمريكية المتباينة التي صدرت مؤخرًا. فعلى الرغم من أن تقرير الوظائف غير الزراعية لشهر نوفمبر أظهر زيادة أفضل من المتوقع بلغت 64 ألف وظيفة، إلا أن معدل البطالة ارتفع إلى 4.6%، وهو أعلى مستوى له منذ سنوات، مع ظهور مؤشرات على فتور المشاركة في سوق العمل. هذا التباين أربك مسار أسعار الفائدة على المدى القريب لدى الاحتياطي الفيدرالي. وزاد حالة عدم اليقين بين متداولي العملات بشأن السياسة المستقبلية.
كما راقب المتداولون هذا الأسبوع تعزز الين الياباني أمام الدولار الأمريكي. حيث تراجع زوج الدولار ين دون مستوى 155.00 وسط تكهنات بإمكانية رفع أسعار الفائدة من قبل بنك اليابان. هذا التباين في أسعار الفائدة، بنك ياباني يتجه نحو التشديد مقابل فيدرالي يتسم بالحذر، وفّر بيئة داعمة لارتفاع الين. ما زاد الضغوط على الدولار خلال بعض ساعات التداول الآسيوية.
ما الذي يقود الدولار حاليًا: بيانات العمل وتوقعات الفائدة
يكمن جوهر قصة الدولار اليوم في تفسير البيانات الاقتصادية الأخيرة. ولا سيما بيانات التوظيف التي لم تنجح في تعزيز مكانة الدولار كملاذ آمن. فقد جاءت مكاسب الوظائف في شهر نوفمبر محدودة، ومع اقترانها بارتفاع معدل البطالة، يرى كثير من مراقبي الأسواق مؤشرات على تباطؤ الاقتصاد الأمريكي. ورغم أن بيانات التوظيف فاقت التوقعات من حيث الرقم، إلا أن تركيبتها، نمو متواضع في الوظائف مع ارتفاع البطالة، تعكس ضعفًا كامنًا في سوق العمل.
وبما أن الاحتياطي الفيدرالي يولي أهمية كبيرة لقوة سوق العمل عند تحديد سياسته النقدية. فقد عززت بيانات الوظائف الضعيفة نسبيًا الرهانات على احتمال خفض أسعار الفائدة في عام 2026. وفي الوقت نفسه، يتعامل مسؤولو الفيدرالي بحذر في الإشارة إلى تيسير وشيك. إذ تشير أحدث توجيهات السياسة النقدية إلى أن خفض الفائدة ممكن. لكنه قد لا يحدث إلا في وقت لاحق من العام، ما قد يؤجل توقعات الأسواق.
وقد خلقت هذه الضبابية في السياسة النقدية حالة شد وجذب في أسواق العملات: فمن جهة، يسعّر المتداولون احتمال التيسير النقدي. ومن جهة أخرى، حدّت تصريحات الفيدرالي من الرهانات شديدة الميل إلى التيسير. وكانت النتيجة تحركات متقلبة ومزدوجة الاتجاه للدولار. حيث يضعف في البداية مع البيانات السلبية، ثم يشهد ارتدادات صعودية متقطعة مع إعادة تقييم السيولة والتمركزات.
في الوقت ذاته، يواصل تباين السياسات النقدية عالميًا التأثير في أسواق العملات. فعلى سبيل المثال، تضيف التكهنات بخفض أسعار الفائدة من قبل بنك إنجلترا في مقابل ثبات السياسة لدى البنك المركزي الأوروبي مزيدًا من التعقيد إلى أداء الدولار أمام الجنيه الإسترليني واليورو. ولا يقتصر تأثير هذه التباينات على سوق الفوركس فقط، بل يمتد أيضًا إلى تداولات الأصول الأخرى مثل الأسهم والسلع.
تفاعل سوق الفوركس: العملات، وتدفقات الأصول، ومعنويات السوق
على صعيد التداول العملي، أسفرت التطورات الحالية عن تحركات ملحوظة في الأزواج الرئيسية:
- الدولار مقابل اليورو:
حافظ اليورو على قوته بالقرب من أعلى مستوياته الأخيرة في ظل معاناة الدولار، ما يعكس زخمًا هبوطيًا على العملة الأمريكية. ومع استفادة اليورو من استقرار نسبي في أسعار الفائدة ونظرة أوسع تشير إلى متانة اقتصادية في منطقة اليورو، يفضّل المتداولون مراكز الشراء على زوج اليورو دولار.
- الدولار مقابل الجنيه الإسترليني:
استفاد الجنيه الإسترليني من ضعف الدولار. حيث يتداول زوج الباوند دولار في نطاق إيجابي فوق مستويات مثل 1.34 خلال الجلسات الرئيسية. ويعكس هذا التحرك مزيجًا من قوة الإسترليني واستمرار رواية ضعف الدولار.
- الدولار مقابل الين الياباني:
تُظهر مكاسب الين الياباني، خاصة مع تراجع زوج الدولار ين قرب مستويات فنية مهمة وسط تكهنات بشأن رفع محتمل للفائدة من بنك اليابان، كيف يمكن لتباين توجهات البنوك المركزية أن يؤثر بقوة في أسواق العملات.
ومع هذه التحركات في العملات، لعب مزاج المخاطرة دورًا مهمًا أيضًا. فضعف الدولار غالبًا ما يؤدي إلى زيادة الطلب على الأصول ذات العائد الأعلى أو المرتبطة بالمخاطر، مثل عملات الأسواق الناشئة، وبعض الأسهم، والسلع كـ الذهب. ويراقب المتداولون هذه الارتباطات عن كثب، إذ يمكن لتحركات العملات أن تضخّم أو تخفف ردود الفعل في الأسواق المرتبطة بها.
النظرة المستقبلية: مؤشرات رئيسية يجب متابعتها
مع استمرار تعقيد وضع الدولار، ينبغي على المتداولين مراقبة عدد من المحفزات القادمة:
- بيانات التضخم الأمريكية (مؤشر أسعار المستهلكين CPI ونفقات الاستهلاك الشخصي الأساسية Core PCE): نظرًا لتركيز الاحتياطي الفيدرالي على السيطرة على التضخم، ستكون هذه البيانات حاسمة في تشكيل توقعات أسعار الفائدة.
- تصريحات الاحتياطي الفيدرالي: خطابات مسؤولي الفيدرالي ومحاضر اجتماعاتهم قد تغيّر التوقعات بسرعة.
- قرارات البنوك المركزية العالمية: استمرار التباين بين سياسات الفيدرالي الأمريكي، والبنك المركزي الأوروبي، وبنك إنجلترا، وبنك اليابان سيبقى عاملًا مؤثرًا في تدفقات الفوركس.
- ظروف السيولة: ضعف السيولة قرب نهاية العام قد يضخّم التحركات، ما يجعل المستويات الفنية وإشارات المعنويات أكثر تأثيرًا.
في المحصلة، فإن تحركات الدولار اليوم لا تعكس ضعفًا مطلقًا بقدر ما تعكس حالة من عدم اليقين في السياسة النقدية وإعادة تمركز في الأسواق. إذ يهيّئ المتداولون أنفسهم لاحتمال التيسير في المستقبل. مع التحوّط في الوقت ذاته من ارتدادات حادة قد تحدث إذا تحسّنت المؤشرات الاقتصادية بشكل مفاجئ.