نظام الاحتياطي الفيدرالي، المعروف باسم “الفيدرالي”هو النظام المصرفي المركزي للولايات المتحدة. وهو يتألف من مجلس المحافظين، ولجنة السوق المفتوحة الفيدرالية (FOMC)و12 بنكاً احتياطياً في الولايات المتحدة. حيث يدير الفيدرالي السياسات النقدية وأسعار الفائدة والمعروض النقدي في البلاد. كما يشرف وينظم البنوك المحلية ويوفر الخدمات المالية للحكومة الأمريكية والمؤسسات المالية.
الفيدرالي والأسواق المالية :الهدف الرئيسي للفيدرالي هو تحديد وتنفيذ السياسات النقدية للحفاظ على استقرار النظام المالي في الولايات المتحدة. بالتالي، يمكن أن تكون قراراته لها تأثير كبير على الأسواق المالية مثل الأسهم والفوركس والسندات والسلع.
يمكن للفيدرالي أن يؤثر على أسواق السندات والفوركس من خلال التحكم في أسعار الفائدة قصيرة الأجل. من خلال تعديل معدل الفائدة للأموال الفيدرالية (معدل الفائدة الذي يقترض ويقرض به بنوك الاحتياطي الفيدرالي من بعضها البعض)، يمكنه أن يؤثر على أسعار سندات الشركات. عن طريق رفع أسعار الفائدة، يمكنه جعل الدولار الأمريكي أكثر جاذبية، مما يزيد من الطلب على العملة وبالتالي سعر صرفها في سوق الفوركس.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للفيدرالي أن يؤثر على مشاعر السوق من خلال زيادة أو تخفيض ثقة المستثمرين. على سبيل المثال، إذا أعلن الفيدرالي أنه سيخفض أسعار الفائدة في المستقبل، فقد يتوقع المستثمرون تباطؤًا اقتصاديًا ويعدلون محافظهم الاستثمارية واستراتيجياتهم وفقاً لذلك. من ناحية أخرى، إذا أعلن أنه سيرفع أسعار الفائدة، فقد يتوقع المستثمرون نمواً اقتصادياً ويعدلون محافظهم واستراتيجياتهم وفقًا لذلك.
ولكن أربعة عناصر من هذا التفسير البسيط تشير إلى أن المشكلة قد تكون منهجية بدرجة أكبر. أولاً، عادة ما تكون هناك زيادة ضخمة في الودائع المصرفية غير المؤمن عليها عندما يشارك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في التيسير الكمي. إذ نظرًا لكون التيسير الكمي ينطوي على شراء الأوراق المالية من السوق مقابل احتياطيات البنك المركزي من السيولة (شكل من أشكال النقد)، فإنه لا يزيد فقط من حجم الميزانية العمومية للبنك المركزي، بل يؤدي أيضًا إلى التوسع في الميزانية العمومية للنظام المصرفي الأوسع وفي ودائعه غير المؤمن عليها القابلة للسحب.
زيادة تدفقات الودائع الواردة من أقل من 5 مليارات دولار في الربع الثالث
وفي ورقة بحث عُرضت في مؤتمر “جاكسون هول” السنوي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، في أغسطس 2022، لفتنا (بمعية المؤلفين المشاركين) الانتباه إلى هذه الحقيقة التي لم تُقدر حق قدرها. إذ مع استئناف بنك الاحتياطي الفيدرالي لسياسة التيسير الكمي خلال الوباء، ارتفعت الودائع المصرفية غير المؤمَّنة من 5.5 تريليون دولار تقريبا في نهاية عام 2019 إلى أكثر من 8 تريليونات دولار بحلول الربع الأول من عام 2022.
وشهد بنك وادي سيليكون زيادة تدفقات الودائع الواردة من أقل من 5 مليارات دولار في الربع الثالث من عام 2019 إلى معدل 14 مليار دولار لكل ربع خلال المدة الذي اعتمدت فيها سياسة التيسير الكمي. ولكن عندما أنهى بنك الاحتياطي الفيدرالي التيسير الكمي، ورفع أسعار الفائدة، وتحول سريعًا إلى التضييق الكمي، انعكست هذه التدفقات. وبدأ بنك وادي السيليكون يلاحظ زيادة في تدفقات الودائع غير المؤمنة إلى الخارج (بعضها كان متزامنًا مع الانكماش الذي شهده قطاع التكنولوجيا، حيث بدأ عملاء البنك الذين انتابهم القلق إزاء ذلك في سحب الاحتياطيات النقدية).
ثانيًا، بعد أن استفادت العديد من البنوك من سيل الودائع، اشترت أوراق مالية سائلة طويلة الأجل مثل، سندات الخزانة والأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري، من أجل توليد عائد مربح: فارق سعر الفائدة الذي ولَّد عوائد أعلى مما كان على البنوك أن تدفعه مقابل الودائع. وعادة، لا يكون هذا محفوفًا بالمخاطر. إذ لم ترتفع أسعار الفائدة طويلة الأجل إلى معدلات كبيرة منذ مدة طويلة؛ وحتى لو بدأت في الارتفاع بالفعل، فإن المصرفيين يدركون أن المودعين غالبا ما يكونون متراخين، وسيقبلون معدلات الودائع المنخفضة لفترة طويلة، حتى عندما ترتفع أسعار الفائدة في السوق. وهكذا، شعرت البنوك بأمان بُناء على التجارب السابقة وبفضل المودعين.
ودائع غير مؤمنة غير مستقرة
الأمور كانت مختلفة هذه المرة، لأن المسألة تتعلق بودائع غير مؤمنة غير مستقرة. إذ نظرا لكونها وُلِّدت بقرار من البنك الاحتياطي الفيدرالي، فهي دائمًا ما كانت معرضة للتدفق كلما غيّر الاحتياطي الفيدرالي مساره. ونظرًا لأن كبار المودعين يمكنهم التنسيق فيما بينهم بسهولة، فإن الإجراءات التي يتخذها عدد قليل منهم يمكن أن تؤدي إلى سلسلة أخرى من الإجراءات. وحتى في البنوك السليمة، فإن المودعين الذين انتبهوا إلى مخاطر البنوك، واطلعوا على أفضل أسعار الفائدة التي تتيحها صناديق أسواق المال سيرغبون في حصولهم على تعويضات بأسعار فائدة عالية. إن فروق أسعار الفائدة الهائلة بين الاستثمارات و”الودائع النائمة” ستكون مهددة، مما يضعف ربحية البنوك وقدرتها على السداد. وكما يقول مثل في القطاع المالي، “الطريق إلى الجحيم ممهد بالاقتراض الإيجابي”.
ويتمثل مصدر القلق الثالث في كون هذين العنصرين المذكورين سلفا قد ضُخما اليوم. إذ في المرة الأخيرة التي تحول فيها بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى التيسير الكمي ورفع أسعار الفائدة، خلال المدة 2017-2019، كانت الزيادة مفاجأة وكبيرة بدرجة أقل؛ وتراجع حجم الأوراق المالية الحساسة للفائدة التي تحتفظ بها البنوك. لِذا، فإن الخسائر التي كان يجب للميزانيات العمومية للبنوك استيعابها كانت صغيرة، ولم تكن هناك عمليات إيداع، مع أن العديد من نفس العوامل كانت متوفرة.
وهذه المرة، فإن معدل الزيادات في أسعار الفائدة، وسرعة وتيرتها، والممتلكات المصرفية للأصول الحساسة لسعر الفائدة ازدادت إلى حد بعيد، حيث اقترحت شركة تأمين الودائع الفيدرالية أن الخسائر غير المتحققة من حيازات الأوراق المالية المعروضة للبيع والمحتفظ بها حتى تاريخ الاستحقاق يمكن أن تتجاوز وحدها 600 مليار دولار. والشاغل الرابع هو التنسيق الإشرافي غير المقصود مع القطاع. إذ من الواضح أن العديد من المشرفين لم يدركوا تعرض البنوك المتزايد لمخاطر سعر الفائدة، أو أنهم لم يتمكنوا من إجبار البنوك على التقليل من حدة تعرضها لتلك المخاطر. ولو كان الإشراف أكثر فعالية (ما زلنا نحاول قياس مدى فشله)، لقل عدد البنوك التي تعاني من المشاكل اليوم.
مخاوف الاستقرار المالي
والمحصلة هي أنه في حين أن العديد من نقاط الضعف في النظام المصرفي خلقها المصرفيون أنفسهم، فإن الاحتياطي الفيدرالي ساهم أيضًا في المشكلة. إذ أدت نوبات التيسير الكمي الدورية إلى توسيع نطاق الميزانيات العمومية للبنوك، وحشوها بمزيد من الودائع غير المؤمن عليها، مما جعل البنوك تعتمد على السيولة السهلة على نحو متزايد. وتُفاقم هذه التبعية صعوبة الحد من التيسير الكمي وتشديد السياسة النقدية. وكلما زاد حجم التيسير الكمي وزادت مدته، زاد الوقت الذي يجب أن يستغرقه بنك الاحتياطي الفيدرالي عند تطبيع ميزانيته العمومية، ومن الناحية المثلى، رفع أسعار الفائدة.
ومما يُؤسف له أن مخاوف الاستقرار المالي هذه تتعارض مع تفويض بنك الاحتياطي الفيدرالي لمكافحة التضخم. إذ تتوقع الأسواق الآن أن يخفض بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة في وقت تتجاوز فيه معدلات التضخم الهدف المحدد إلى حد بعيد، ويدعو بعض المراقبين إلى وقف التيسير الكمي. ويوفر بنك الاحتياطي الفيدرالي مرة أخرى السيولة بكميات كبيرة مستخدماً نافذة الخصم والقنوات الأخرى. وإذا لم تؤد مشاكل القطاع المالي إلى إبطاء النمو الاقتصادي، فإن إجراءات كهذه يمكن أن تطيل أمد الكفاح ضد التضخم وتزيد من تكلفته.
إن المحصلة النهائية واضحة: لا يسع بنك الاحتياطي الفيدرالي أن يتجاهل دور سياساته النقدية (خاصة التيسير الكمي) في خلق الظروف الصعبة الراهنة، أثناء إعادته النظر في سلوكه ودوره الرقابي.